غامرت ساعة عشان توصلى ووصلتلى .. وأنا عشرين سنة مش عارف أوصل لنفسى |
غامرت ساعة عشان توصلى ووصلتلى .. وأنا عشرين سنة مش عارف أوصل لنفسى !
" أنت تعبت وغامرت ساعة علشان توصلى .. أنا بقى بقالى عشرين سنة مش عارف أوصل لنفسى " .. هكذا خطفنى وأسرنى أبوزيد بجملة عميقة لم أكن أتوقعها قط من شاب المفروض أنه من أولاد الشوارع ومتسول كما يقولون وعاش عمره كله فى الشارع !!.. شعرت أننى أمام حالة خاصة جدآ لشاب فريد من نوعه !!.. أحسست أنى أقف أمام فيلسوف أو حكيم أو رجل تجاوز الثمانون من عمره وله من تجارب الحياة الكثير والكثير !!.. البداية كانت منى عندما شاهدته فقلت له بتلقائية " ياه ده إحنا تعبنا وغامرنا أوى عشان نوصلك يا أبوزيد " .. فما كان منه سوى هذا الرد البليغ الذى أدهشنى به عندما قال لى " لو كنت تعبت وغامرت ساعة عشان توصلى ووصلتلى فأنا غامرت عشرين سنة ومعرفتش أوصل لنفسى " !!.
أنا مش حشرة .. أنا إنسان !!
بدأ أبوزيد يسرد حكايته من البداية منذ أن شاءت الظروف أن تتزوج والدته البسيطة الفقيرة بائعة الشاى من الشاب الثرى الذى استغل جمالها وتزوجها عرفيآ وأنجب منها طفلآ هو أبوزيد !!.. توفت والدة أبوزيد وهو فى سن السبع سنوات ونجح فى الوصول إلى والده لكن الأخير تبرء منه تمامآ ولم يعترف به وطرده من مسكنه بعد أن تزوج من أخرى وأنجب منها ثلاثة أطفال هم أشقاء أبوزيد!! .. فوجد نفسه حبيس الشارع والأرصفة !!.. نام على الرصيف فى عز البرد فى الوقت الذى كان أشقاءه ينامون فيه على الوسادات الناعمة وتحت الأغطية السميكة الدافئة !!.. كان يتصبب عرقآ مع حرارة الصيف فى الوقت الذى كان أشقاءه ينعمون فيه بالمكيفات سواء فى سيارة والدهم أو فى منزلهم !!.. ورغم كل ذلك لم ينقم أبوزيد على حاله وظل متمسك بوالده فذهب له مرة أخرى فما كان من والده سوى أن قال لحارس العقار " لو الحشرة ده جه تاتى ارميه برة " !!!.. هنا انهار أبوزيد وسالت دموعه كالمطر وهو يردد فى نفسه ويقول " أنا مش حشرة .. أنا إنسان " !!.
بحب أعمل كل حاجة تزعلك لأنك زعلتنى عمرى كله !!
وفى جملة بليغة أخرى يأسرنى أبوزيد بعباراته ويجعل الدموع تترقرق بين عيونى وأنا أغالبها بكل صعوبة !!.. حيث أراد أن يوجه رسالة إلى والده متعمدآ أن يحرجه ويضعه فى مأزق وأن يكون سببآ فى ضيقه .. هو يريد أن يفضحه ويفضح أشقائه الثلاثة !!.. فيقول لى " أنا بحب أزعله أوى لأنه زعلنى عمرى كله "!!.. فاذا بأبوزيد يناديه وينادى أشقائه ويقول لهم " شايفين أخوكوا حلو إزاى .. شايفين شكله وأسنانه حلوة إزاى .. "!!.. وظل يردد جمل وعبارات يبكى لها الحجر الصوان !!.. اكثر من عشرين سنة عاشها هذا الشاب وحيدآ مذلولآ مقهورأ مغلوبآ على أمره وعلى حاله !!.. فى الوقت الذى كان فيه والده ميسورآ غنيآ وأشقائه فى المدارس منعمين وسعداء !!.
يغامر يوميآ بالسيرعلى الإرتفاعات كى يقضى حاجته !!
فى الوقت الذى كان فيه أشقاء أبوزيد يقضون حاجتهم فى الحمامات الفاخرة الباردة والساخنة كان هو يتسلق الإرتفاعات ويسير على أعمدة القصر المتهالكة كى يعبر المسافة من المبنى المهجور الذى يعيش فيه إلى المنى الأخر المواجه له والذى يحوى حمامات القصر !!.. يوميآ وعلى مدى سنوات وسنوات كان أبوزيد يسير على الأعمدة المرتفعة كى يقضى حاجته !!.. لم استوعب الأمر فى البداية وطلبت منه أن يجعلنى أشاهد بنفسى فإذا به يقوم بالفعل بالسير على الأعمده الخشبية المتهالكة مما جعلنى أشعر وكأننى أشاهد فيلمآ سينمائيآ من وحى خيال مؤلفه أوكاتبه .
دموع أبوزيد يبكى لها الحجر !!
كانت دموع أبوزيد أقوى بكثير من مجرد سطور تعبر عنها أو وصف يصفها أو معنى يجسدها !!.. لم يكن منى سوى أن اقتربت منه محاولآ التخفيف عنه بأى شكل .. وإذا به يقول لى جملة بليغة أخرى جعلتنى أحتار فى أمر هذا الشاب الذى بالفعل تشعر وكأنك تحاور فيلسوفآ أو أديبآ أو كاتبآ أو كهلآ له من تجارب الحياة وخبرات السنين الكثير والكثير!! .. قال لى " معقول .. معقول الناس كلها بتنفرنى وتقرف منى وأنت بتقرب منى .. مش خايف على هدومك لتتوسخ يا أستاذ "!!.. وهنا إحتضنت أبوزيد من كل قلبى .
تقدر ترجعلى عمرى اللى راح !!
كان لابد أن أرحل بعد هذا الحوار الطويل جدآ وهذه المهمة الخاصة شديدة الوطأة والدراما !!.. لم اكن أريد أن أترك هذا الشاب على الإطلاق .. شئ ما بداخلى كان يحثنى أن أبقى معه أطول فترة ممكنة من الوقت .. عرضت عليه أن أتوسط له فى عمل أو حرفة أو أى شئ أو أن أصلح له ولو جزء بسيط من حياته .. فما كان منه سوى بلاغته المعهودة وعباراته الرنانة التى مازالت فى أذنى رغم مرور ما يقرب من عشر سنوات مضت !!.. قال لى " هتقدر ترجعلى حياتى اللى فاتت .. تقدر ترجعلى عمرى اللى ضاع .. تقدر ترجعلى أسنانى اللى إتكسرت .. تقدر تصلح وشى اللى باظ " !!.. فما كان منى سوى أن بكيت واحتضنته بكل حب وإخلاص !!.
نهاية مأساوية وغير متوقعة تمامآ !!
من الواضح أن أبوزيد قد أحبنى من قلبه .. وذلك لأنه صمم أن ينزل معى إلى بهو القصر المهجور ويودعنى على الباب رغم علمى بأنه من المستحيل أن يهبط من مكانه العلوى فى الجناح الملكى إلا لسبب قهرى أو عندما تهاجم الشرطة القصر !!.. عدا ذلك فأبوزيد نادر جدآ أن تجده موجود فى ساحة القصر المهجور أو أن تجده جالسآ مع الصبية الأخرين الذين إتخذوا من القصر مأوى لهم !!.. أصر أبوزيد أن يودعنى وكنت أشعر بداخلى بشئ غريب وأنا أغادر هذا المكان!! .. كنت أشعر أننى لم ولن أرى هذا الشاب مرة أخرى !!.. وبالفعل وبعد أسبوع واحد فقط وفى الوقت الذى كنت أستعد فيه لزيارة أبوزيد زيارة شخصية فوجئت بخبر وفاته !!.. نعم توفى أبوزيد !! .. نعم .. توفى هذا الشاب البسيط الغلبان صاحب القول البليغ والقلب الجميل والحكمة التى وهبها الله له !!.. توفى وكأن الله تعالى قد أثلج صدره قبل وفاته بهذا اللقاء التليفزيونى الذى أخرج فيه كل وجع كان حبيس بين ضلوعة طيلة السنوات العديدة السابقة ضد والده الجاحد الذى كان سببآ رئيسيآ فى كل قهر حدث له !!.. وكأن الله تعالى قد قدر له هذه النهاية كى يرحمه من عذاب الفكر والهم والشجن والوحدة والعزلة التى عاشها أبوزيد !!.. وكانت وفاته فى حد ذاتها أمرآ غريبآ جدآ !!.. فرغم مهارته الفائقة فى عبور الأعمدة الخشبية التى كان يمر عليها يوميآ لأداء حاجته إلا أنه قد سقط من عليها !! .. نعم .. إختل توازنه وسقط من ارتفاع خمسة عشرة مترآ واصطدمت جبهته بغطاء بالوعة صرف صحى !!.. كانت البالوعة مكشوفة الغطاء .. اصطدمت رأس أبوزيد بالغطاء وتوفى على حافة بالوعة الصرف فى مشهد تقشعر له الأبدان !!.. الأغرب من كل ذلك أننى ومنذ أن قمت بإذاعة حلقة أبوزيد على التليفزيون فوجئت بالعديد من رجال الأعمال وأصحاب القلوب الرحيمة بل وبعض السيدات العرب والمصريات .. انهالت التليفونات والرسائل .. الكل يريد مساندة ومساعدة أبوزيد .. الكل يريد التخفيف عن أبوزيد .. لم يمر سوى أسبوع وأعلنت على الهواء مباشرة خبر وفاة أبوزيد!! .. بكت مصر كلها على هذا الشاب !!.. ولم يصدق الناس أن نفس هذا الشاب الذى شاهدوا مأساته الأسبوع الماضى هو نفسه الشاب الذى توفى فى الأسبوع الذى أعقبه مباشرة !!.. توجهت بالشكر لكل من حاول أن يساعد أبوزيد أو أن يقدم له يد العون .. وعلمت بداخلى أن الله تعالى ملك الملوك هو الذى أراد أن يحنوا على أبوزيد وليس البشر !! وللحديث بقية .